فصل: تفسير الآيات (1- 25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (18- 36):

{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)}
قوله: {كَلاَّ} للردع، والزجر عما كانوا عليه، والتكرير للتأكيد، وجملة: {إِنَّ كتاب الأبرار لَفِى عِلّيّينَ} مستأنفة لبيان ما تضمنته، ويجوز أن يكون كلا بمعنى: حقاً، والأبرار: هم المطيعون، وكتابهم صحائف حسناتهم. قال الفراء: عليين ارتفاع بعد ارتفاع لا غاية له، ووجه هذا أنه منقول من جمع عليّ من العلوّ. قال الزجاج: هو إعلاء الأمكنة. قال الفراء والزجاج: فأعرب كإعراب الجمع؛ لأنه على لفظ الجمع، ولا واحد له من لفظه نحو: ثلاثين، وعشرين، وقنسرين. قيل: هو علم لديوان الخير الذي دوّن فيه ما عمله الصالحون.
وحكى الواحدي عن المفسرين أنه السماء السابعة. قال الضحاك، ومجاهد، وقتادة يعني: السماء السابعة فيها أرواح المؤمنين.
وقال الضحاك: هو سدرة المنتهى ينتهي إليه كل شيء من أمر الله لا يعدوها، وقيل هو الجنة، وقال قتادة أيضاً: هو فوق السماء السابعة عند قائمة العرش اليمنى، وقيل: إن عليين صفة للملائكة، فإنهم في الملأ الأعلى، كما يقال فلان في بني فلان أي: في جملتهم {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلّيُّونَ * كتاب مَّرْقُومٌ} أي: وما أعلمك يا محمد أيّ شيء عليون على جهة التفخيم والتعظيم لعليين، ثم فسره فقال: {كتاب مَّرْقُومٌ} أي: مسطور، والكلام في هذا كالكلام المتقدم في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ * كتاب مَّرْقُومٌ} [المطففين: 8، 9] وجملة: {يَشْهَدُهُ المقربون} صفة أخرى لكتاب، والمعنى: أن الملائكة يحضرون ذلك الكتاب المرقوم، وقيل: يشهدون بما فيه يوم القيامة. قال وهب وابن إسحاق: المقرّبون هنا إسرافيل، فإذا عمل المؤمن عمل البرّ صعدت الملائكة بالصحيفة، ولها نور يتلألأ في السموات كنور الشمس في الأرض حتى تنتهي بها إلى إسرافيل، فيختم عليها.
ثم ذكر سبحانه حالهم في الجنة بعد ذكر كتابهم، فقال: {إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ} أي: إن أهل الطاعة لفي تنعم عظيم لا يقادر قدره {عَلَى الأرائك يَنظُرُونَ} الأرائك: الأسرة التي في الحجال، وقد تقدّم أنها لا تطلق الأريكة على السرير إلا إذا كان في حجلة. قال الحسن: ما كنا ندري ما الأرائك حتى قدم علينا رجل من اليمن، فزعم أن الأريكة عندهم الحجلة إذا كان فيها سرير. ومعنى: {يُنظَرُونَ}: أنهم ينظرون إلى ما أعدّ الله لهم من الكرامات، كذا قال عكرمة، ومجاهد، وغيرهما.
وقال مقاتل: ينظرون إلى أهل النار، وقيل: ينظرون إلى وجهه، وجلاله. {تَعْرِفُ في وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم} أي: إذا رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعمة لما تراه في وجوههم من النور، والحسن، والبياض، والبهجة، والرونق، والخطاب لكلّ راء يصلح لذلك، يقال أنضر النبات: إذا أزهر ونوّر. قال عطاء: وذلك أن الله زاد في جمالهم، وفي ألوانهم ما لا يصفه واصف.
قرأ الجمهور {تعرف} بفتح الفوقية، وكسر الراء، ونصب نضرة، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع، ويعقوب، وشيبة، وطلحة، وابن أبي إسحاق بضم الفوقية، وفتح الراء على البناء للمفعول، ورفع نضرة بالنيابة {يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ} قال أبو عبيدة، والأخفش، والمبرد، والزجاج: الرحيق من الخمر ما لا غشّ فيه، ولا شيء يفسده. والمختوم الذي له ختام.
وقال الخليل: الرحيق أجود الخمر، وفي الصحاح الرحيق صفرة الخمر.
وقال مجاهد: هو الخمر العتيقة البيضاء الصافية، ومنه قول حسان:
يسقون من ورد البريص عليهم ** بردى يصفق بالرحيق السلسل

قال مجاهد: {مَّخْتُومٍ}: مطين كأنه ذهب إلى معنى الختم بالطين، ويكون المعنى: أنه ممنوع من أن تمسه يد إلى أن يفك ختمه للأبرار.
وقال سعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي: ختامه آخر طعمه. وهو معنى قوله: {ختامه مِسْكٌ} أي آخر طعمه ريح المسك إذا رفع الشارب فاه من آخر شرابه وجد ريحه كريح المسك. وقيل: مختوم أوانيه من الأكواب، والأباريق بمسك مكان الطين، وكأنه تمثيل لكمال نفاسته، وطيب رائحته. والحاصل أن المختوم، والختام إما أن يكون من ختام الشيء وهو آخره، أو من ختم الشيء وهو جعل الخاتم عليه، كما تختم الأشياء بالطين، ونحوه. قرأ الجمهور: {ختامه} وقرأ عليّ، وعلقمة، وشقيق، والضحاك، وطاووس، والكسائي: {خاتمه} بفتح الخاء، والتاء، وألف بينهما. قال علقمة: أما رأيت المرأة تقول للعطار: اجعل خاتمه مسكاً: أي: آخره، والخاتم، والختام يتقاربان في المعنى، إلا أن الخاتم الاسم، والختام المصدر، كذا قال الفراء قال في الصحاح: والختام الطين الذي يختم به، وكذا قال ابن زيد. قال الفرزدق:
وبتن بجانبي مصرّعات ** وبت أفضّ أغلاف الختام

{وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون} أي: فليرغب الراغبون، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى الرحيق الموصوف بتلك الصفة، وقيل: إن في بمعنى إلى، أي: وإلى ذلك، فليتبادر المتبادرون في العمل، كما في قوله: {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون} [الصافات: 61] وأصل التنافس التشاجر على الشيء، والتنازع فيه، بأن يحب كل واحد أن يتفرد به دون صاحبه، يقال نفست الشيء عليه أنفسه نفاسة أي: ظننت به، ولم أحبّ أن يصير إليه. قال البغوي: أصله من الشيء النفيس الذي تحرص عليه نفوس الناس، فيريده كل واحد لنفسه، وينفس به على غيره أي: يضن به. قال عطاء: المعنى: فليستبق المستبقون.
وقال مقاتل بن سليمان: فليتنازع المتنازعون، وقوله: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ} معطوف على {ختامه مِسْكٌ} صفة أخرى لرحيق أي: ومزاج ذلك الرحيق من تسنيم، وهو شراب ينصبّ عليهم من علو، وهو أشرف شراب الجنة، وأصل التسنيم في اللغة الارتفاع، فهي عين ماء تجري من علوّ إلى أسفل، ومنه سنام البعير لعلوّه من بدنه، ومنه تسنيم القبور، ثم بيّن ذلك فقال: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون} وانتصاب عيناً على المدح.
وقال الزجاج: على الحال، وإنما جاز أن تكون {عيناً} حالاً مع كونها جامدة غير مشتقة لاتصافها بقوله: {يَشْرَبُ بِهَا} وقال الأخفش: إنها منصوبة ب {يسقون} أي: يسقون عيناً، أو من عين، وقال الفرّاء: إنها منصوبة ب {تسنيم} على أنه مصدر مشتق من السنام، كما في قوله: {أَوْ إِطْعَامٌ في يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً} [البلد: 14، 15] والأوّل أولى، وبه قال المبرّد. قيل: والباء في بها زائدة أي: يشربها، أو بمعنى من أي: يشرب منها. قال ابن زيد: بلغنا أنها عين تجري من تحت العرش، قيل: يشرب بها المقرّبون صرفاً، ويمزج بها كأس أصحاب اليمين.
ثم ذكر سبحانه بعض قبائح المشركين فقال: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ} وهم كفار قريش، ومن وافقهم على الكفر {كَانُواْ مِنَ الذين ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ} أي: كانوا في الدنيا يستهزئون بالمؤمنين ويسخرون منهم {وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ} أي: وإذا مرّ المؤمنون بالكفار وهم في مجالسهم {يَتَغَامَزُونَ} من الغمز، وهو الإشارة بالجفون والحواجب: أي: يغمز بعضهم بعضاً، ويشيرون بأعينهم وحواجبهم، وقيل: يعيرونهم بالإسلام، ويعيبونهم به {وَإِذَا انقلبوا} أي: الكفار {إلى أَهْلِهِمْ} من مجالسهم {انقلبوا فاكهين} أي: معجبين بما هم فيه متلذذين به، يتفكهون بذكر المؤمنين، والطعن فيهم، والاستهزاء بهم، والسخرية منهم. والانقلاب: الانصراف. قرأ الجمهور: {فاكهين} وقرأ حفص، وابن القعقاع، والأعرج، والسلمي: {فكهين} بغير ألف. قال الفرّاء: هما لغتان، مثل طمع وطامع، وحذر وحاذر.
وقد تقدّم بيانه في سورة الدخان أن الفكه: الأشر البطر، والفاكه: الناعم المتنعم {وَإِذَا رَأَوْهُمْ} أي: إذا رأى الكفار المسلمين في أي مكان {قَالُواْ إِنَّ هَؤُلاَء لَضَالُّونَ} في اتباعهم محمداً، وتمسكهم بما جاء به، وتركهم التنعم الحاضر، ويجوز أن يكون المعنى: وإذا رأى المسلمون الكافرين قالوا هذا القول، والأوّل أولى، وجملة: {وَمَا أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حافظين} في محل نصب على الحال من فاعل قالوا: أي: قالوا ذلك أنهم لم يرسلوا على المسلمين من جهة الله موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم وأعمالهم.
{فاليوم الذين ءامَنُواْ} المراد باليوم: اليوم الآخر {مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ} والمعنى: أن المؤمنين في ذلك اليوم يضحكون من الكفار حين يرونهم أذلاء مغلوبين قد نزل بهم ما نزل من العذاب، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا، وجملة: {عَلَى الأرائك يَنظُرُونَ} في محل نصب على الحال من فاعل {يضحكون}: أي: يضحكون منهم ناظرين إليهم، وإلى ما هم فيه من الحال الفظيع، وقد تقدّم تفسير الأرائك قريباً. قال الواحدي: قال المفسرون: إن أهل الجنة إذا أرادوا نظروا من منازلهم إلى أعداء الله، وهم يعذبون في النار، فضحكوا منهم، كما ضحكوا منهم في الدنيا.
وقال أبو صالح: يقال لأهل النار اخرجوا، ويفتح لهم أبوابها، فإذا رأوها قد فتحت أقبلوا إليها يريدون الخروج، والمؤمنون ينظرون إليهم على الأرائك، فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم، فذلك قوله: {فاليوم الذين ءامَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ}. {هَلْ ثُوّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} الجملة مستأنفة لبيان أنه قد وقع الجزاء للكفار بما كان يقع منهم في الدنيا من الضحك من المؤمنين، والاستهزاء بهم، والاستفهام للتقرير، وثوّب بمعنى: أثيب، والمعنى: هل جوزي الكفار بما كانوا يفعلونه بالمؤمنين؟ وقيل: الجملة في محل نصب بينظرون، وقيل: هي على إضمار القول: أي: يقول بعض المؤمنين لبعض هل ثوّب الكفار، والثواب ما يرجع على العبد في مقابلة عمله، ويطلق على الخير والشرّ.
وقد أخرج ابن المبارك في الزهد، وعبد بن حميد، وابن المنذر من طريق شمر بن عطية أن ابن عباس سأل كعب الأحبار عن قوله: {إِنَّ كتاب الابرار لَفِى عِلّيّينَ} قال: روح المؤمن إذا قبضت عرج بها إلى السماء، ففتح لها أبواب السماء، وتلقاها الملائكة بالبشرى حتى تنتهي بها إلى العرش، وتعرج الملائكة، فيخرج لها من تحت العرش رقّ، فيرقم ويختم ويوضع تحت العرش لمعرفة النجاة لحساب يوم الدين.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {لَفِى عِلّيّينَ} قال: الجنة، وفي قوله: {يَشْهَدُهُ المقربون} قال: أهل السماء.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والطبراني، وابن مردويه عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة على أثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين».
وأخرج ابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب في قوله: {نَضْرَةَ النعيم} قال: عين في الجنة يتوضئون منها ويغتسلون، فتجري عليهم نضرة النعيم.
وأخرج عبد بن حميد، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وهناد، وابن المنذر، والبيهقي في البعث عن ابن مسعود في قوله: {يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ} قال: الرحيق الخمر، والمختوم يجدون عاقبتها طعم المسك.
وأخرج ابن أبي شيبة، وهناد، وابن المنذر عنه في قوله: {مَّخْتُومٍ} قال: ممزوج {ختامه مِسْكٌ} قال: طعمه وريحه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله: {مِن رَّحِيقٍ} قال: خمر، وقوله: {مَّخْتُومٍ} قال: ختم بالمسك.
وأخرج الفريابي، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي عن ابن مسعود في قوله: {ختامه مِسْكٌ} قال: ليس بخاتم يختم به، ولكن خلطه مسك، ألم تر إلى المرأة من نسائكم تقول خلطه من الطيب كذا وكذا.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي عن أبي الدرداء {ختامه مِسْكٌ} قال: هو: شراب أبيض مثل الفضة يختمون به آخر شرابهم، ولو أن رجلاً من أهل الدنيا أدخل أصبعه فيه ثم أخرجها، لم يبق ذو روح إلا وجد ريحها.
وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: {تَسْنِيمٍ} أشرف شراب أهل الجنة، وهو صرف للمتقين، ويمزج لأصحاب اليمين.
وأخرج ابن المبارك، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وهناد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ} قال: عين في الجنة تمزج لأصحاب اليمين، ويشربها المقرّبون صرفاً.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن ابن عباس أنه سئل عن قوله: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ} قال: هذا مما قال الله {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17].

.سورة الانشقاق:

هي ثلاث وعشرون آية.
وقيل: خمس وعشرون آية.
وهي مكية بلا خلاف.
وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الانشقاق بمكة.
وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ {إذا السماء انشقت} فسجد فقلت له فقال: سجدت خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه.
وأخرج مسلم وأهل السنن وغيرهم عن أبي هريرة قال: سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في {إذا السماء انشقت}، {اقرأ باسم ربك}.
وأخرج ابن خزيمة والروياني في مسنده والضياء المقدسي في المختارة عن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر {إذا السماء انشقت} ونحوها.

.تفسير الآيات (1- 25):

{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)}
قوله: {إِذَا السماء انشقت} هو كقوله: {إِذَا الشمس كُوّرَتْ} [التكوير: 1] في إضمار الفعل وعدمه. قال الواحدي: قال المفسرون: انشقاقها عن علامات القيامة، ومعنى انشقاقها: انفطارها بالغمام الأبيض، كما في قوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام} [الفرقان: 25] وقيل: تنشقّ من المجرّة، والمجرّة باب السماء.
واختلف في جواب إذا، فقال الفرّاء: إنه أذنت، والواو زائدة، وكذلك ألقت. قال ابن الأنباري: هذا غلط، لأن العرب لا تقحم الواو إلا مع حتى إذا كقوله: {حتى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أبوابها} [الزمر: 1] ومع لما، كقوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وناديناه} [الصافات: 103، 104] ولا تقحم مع غير هذين. وقيل: إن الجواب قوله: {فملاقيه} أي: فأنت ملاقيه، وبه قال الأخفش.
وقال المبرد: إن في الكلام تقديماً وتأخيراً أي: يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً، فملاقيه إذا السماء انشقت.
وقال المبرد أيضاً: إن الجواب قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ} وبه قال الكسائي، والتقدير: إذا السماء انشقت، فمن أوتي كتابه بيمينه، فحكمه كذا، وقيل هو: {يا أيها الإنسان} على إضمار الفاء، وقيل: إنه {يا أيها الإنسان} على إضمار القول أي: يقال له يا أيها الإنسان وقيل: الجواب محذوف تقديره بعثتم، أو لاقى كلّ إنسان عمله، وقيل: هو ما صرّح به في سورة التكوير أي: علمت نفس هذا، على تقدير أن إذا شرطية، وقيل: ليست بشرطية وهي منصوبة بفعل محذوف أي اذكر، أو هي مبتدأ، وخبرها إذا الثانية، والواو مزيدة، وتقديره: وقت انشقاق السماء وقت مدّ الأرض، ومعنى: {وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا}: أنها أطاعته في الانشقاق من الإذن، وهو الاستماع للشيء والإصغاء إليه {وَحُقَّتْ} أي: وحقّ لها أن تطيع وتنقاد وتسمع، ومن استعمال الإذن في الاستماع قول الشاعر:
صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به ** وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا

وقول الآخر:
إن يأذنوا ريبة طاروا بها فرحا ** مني وما أذنوا من صالح دفنوا

وقيل: المعنى: وحقق الله عليها الاستماع لأمره بالانشقاق: أي: جعلها حقيقة بذلك. قال الضحاك: {حقت} أطاعت، وحقّ لها أن تطيع ربها لأنه خلقها، يقال: فلان محقوق بكذا، ومعنى طاعتها: أنها لا تمتنع مما أراده الله بها. قال قتادة: حقّ لها أن تفعل ذلك، ومن هذا قول كثير:
فإن تكن العتبى فأهلا ومرحبا ** وحقت لها العتبى لدينا وقلت

{وَإِذَا الأرض مُدَّتْ} أي: بسطت كما تبسط الأدم؛ ودكت جبالها حتى صارت قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً. قال مقاتل: سوّيت كمدّ الأديم، فلا يبقى عليها بناء ولا جبل إلا دخل فيها، وقيل: مدّت زيد في سعتها، من المدد، وهو: الزيادة. {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا} أي: أخرجت ما فيها من الأموات والكنوز، وطرحتهم إلى ظهرها {وَتَخَلَّتْ} من ذلك.
قال سعيد بن جبير: ألقت ما في بطنها من الموتى، وتخلت ممن على ظهرها من الأحياء، ومثل هذا قوله: {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 2] {وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا} أي: سمعت وأطاعت لما أمرها من الإلقاء والتخلي {وَحُقَّتْ} أي: وجعلت حقيقة بالاستماع لذلك والانقياد له.
وقد تقدّم بيان معنى الفعلين قبل هذا {يا أيّها الإنسان} المراد جنس الإنسان، فيشمل المؤمن والكافر، وقيل: هو الإنسان الكافر، والأوّل أولى لما سيأتي من التفصيل {إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبّكَ كَدْحاً} الكدح في كلام العرب: السعي في الشيء بجهد من غير فرق بين أن يكون ذلك الشيء خيراً أو شرّاً، والمعنى: أنك ساع إلى ربك في عملك، أو إلى لقاء ربك، مأخوذ من كدح جلده: إذا خدشه. قال ابن مقبل:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما ** أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح

قال قتادة، والضحاك، والكلبي: عامل لربك عملاً {فملاقيه} أي: فملاق عملك، والمعنى: أنه لا محالة ملاق لجزاء عمله، وما يترتب عليه من الثواب والعقاب. قال القتيبي: معنى الآية: إنك كادح: أي: عامل ناصب في معيشتك إلى لقاء ربك، والملاقاة بمعنى اللقاء: أي: تلقى ربك بعملك، وقيل: فملاق كتاب عملك؛ لأن العمل قد انقضى {فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ} وهم: المؤمنون: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} لا مناقشة فيه. قال مقاتل: لأنها تغفر ذنوبه، ولا يحاسب بها.
وقال المفسرون: هو أن تعرض عليه سيئاته، ثم يغفرها الله، فهو الحساب اليسير {وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} أي: وينصرف بعد الحساب اليسير إلى أهله الذين هم في الجنة من عشيرته، أو إلى أهله الذين كانوا له في الدنيا من الزوجات والأولاد، وقد سبقوه إلى الجنة، أو إلى من أعدّه الله له في الجنة من الحور العين، والولدان المخلدين، أو إلى جميع هؤلاء مسروراً مبتهجاً بما أوتي من الخير والكرامة.
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه وَرَاء ظَهْرِهِ} قال الكلبي: لأن يمينه مغلولة إلى عنقه، وتكون يده اليسرى خلفه.
وقال قتادة، ومقاتل: تفك ألواح صدره وعظامه، ثم تدخل يده وتخرج من ظهره، فيأخذ كتابه كذلك {فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً} أي: إذا قرأ كتابه قال: يا ويلاه يا ثبوراه، والثبور الهلاك {ويصلى سَعِيراً} أي: يدخلها، ويقاسي حرّ نارها وشدّتها. قرأ أبو عمرو، وحمزة، وعاصم بفتح الياء، وسكون الصاد، وتخفيف اللام. وقرأ الباقون بضم الياء، وفتح اللام، وتشديدها، وروى إسماعيل المكي عن ابن كثير، وكذلك خارجة عن نافع، وكذلك روى إسماعيل المكي عن ابن كثير أنهم قرؤوا بضم الياء، وإسكان الصاد من أصلى يصلى {إِنَّهُ كَانَ في أَهْلِهِ مَسْرُوراً} أي: كان بين أهله في الدنيا مسروراً باتباع هواه، وركوب شهوته بطراً أشراً لعدم خطور الآخرة بباله، والجملة تعليل لما قبلها، وجملة: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} تعليل لكونه كان في الدنيا في أهله مسروراً، والمعنى: أن سبب ذلك السرور ظنه بأنه لا يرجع إلى الله، ولا يبعث للحساب والعقاب لتكذيبه بالبعث، وجحده للدار الآخرة، و{أن} في قوله: {أَن لَّن يَحُورَ} هي: المخففة من الثقيلة سادّة مع ما في حيزها مسدّ مفعولي ظنّ، والحور في اللغة: الرجوع، يقال حار يحور: إذا رجع، وقال الراغب: الحور التردّد في الأمر، ومنه نعوذ بالله من الحور بعد الكور: أي من التردّد في الأمر بعد المضيّ فيه، ومحاورة الكلام مراجعته، والمحار المرجع والمصير.
قال عكرمة، وداود بن أبي هند: يحور كلمة بالحبشية، ومعناها يرجع. قال القرطبي: الحور في كلام العرب: الرجوع، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور» يعني: من الرجوع إلى النقصان بعد الزيادة، وكذلك الحور بالضم، وفي المثل، حور في محار: أي: نقصان في نقصان، ومنه قول الشاعر:
والذم يبقى وزاد القوم في حور

والحور أيضاً: الهلكة، ومنه قول الراجز:
في بئر لا حور سرى وما شعر

قال أبو عبيدة: أي: في بئر حور، ولا زائدة. {بلى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً} بلى إيجاب للمنفيّ بلن أي: بلى ليحورنّ وليبعثنّ. ثم علل ذلك بقوله: {إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً} أي: كان به وبأعماله عالماً لا يخفى عليه منها خافية. قال الزجاج: كان به بصيراً قبل أن يخلقه عالماً بأن مرجعه إليه. {فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق} (لا) زائدة، كما تقدّم في أمثال هذه العبارة، وقد قدّمنا الاختلاف فيها في سورة القيامة، فارجع إليه، والشفق: الحمرة التي تكون بعد غروب الشمس إلى وقت صلاة العشاء الآخرة. قال الواحدي: هذا قول المفسرين، وأهل اللغة جميعاً. قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: عليه ثوب مصبوغ كأنه الشفق، وكان أحمر، وحكاه القرطبي عن أكثر الصحابة، والتابعين والفقهاء.
وقال أسد بن عمر، وأبو حنيفة: في إحدى الروايتين عنه إنه البياض، ولا وجه لهذا القول، ولا متمسك له لا من لغة العرب ولا من الشرع. قال الخليل: الشفق الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة. قال في الصحاح: الشفق بقية ضوء الشمس وحمرتها في أوّل الليل إلى قريب العتمة، وكتب اللغة والشرع مطبقة على هذا، ومنه قول الشاعر:
قم يا غلام أعنى غير مرتبك ** على الزمان بكأس حشوها شفق

وقال آخر:
أحمر اللون كحمرة الشفق

وقال مجاهد: الشفق النهار كله ألا تراه قال: {واليل وَمَا وَسَقَ} وقال عكرمة: هو ما بقي من النهار، وإنما قالا هذا لقوله بعده: {واليل وَمَا وَسَقَ} فكأنه تعالى أقسم بالضياء والظلام، ولا وجه لهذا، على أنه قد روي عن عكرمة أنه قال: الشفق الذي يكون بين المغرب والعشاء، وروي عن أسد بن عمر الرجوع {واليل وَمَا وَسَقَ} الوسق عند أهل اللغة: ضم الشيء بعضه إلى بعض، يقال استوسقت الإبل: إذا اجتمعت وانضمت، والراعي يسقها: أي: يجمعها.
قال الواحدي: المفسرون يقولون: وما جمع، وضم، وحوى، ولف، والمعنى: أنه جمع، وضمّ ما كان منتشراً بالنهار في تصرّفه، وذلك أن الليل إذا أقبل آوى كل شيء إلى مأواه، ومنه قول ضابئ بن الحرث البرجمي:
فإني وإياكم وسوقاً إليكم ** كقابض شيئًا لم تنله أنامله

وقال عكرمة {وَمَا وَسَقَ} أي: وما ساق من شيء إلى حيث يأوي، فجعله من السوق لا من الجمع، وقيل: {وَمَا وَسَقَ} أي: وما جُنَّ وستر، وقيل: {وَمَا وَسَقَ} أي: وما حمل، وكل شيء حملته فقد وسقته، والعرب تقول: لا أحمله ما وسقت عيني الماء، أي: حملته، ووسقت الناقة تسق وسقاً، أي: حملت. قال قتادة، والضحاك، ومقاتل بن سليمان: وما وسق، وما حمل من الظلمة، أو حمل من الكواكب. قال القشيري: ومعنى حمل: ضمّ وجمع، والليل يحمل بظلمته كل شيء.
وقال سعيد بن جبير: {وما وسق} أي: وما عمل فيه من التهجد والاستغفار بالأسحار، والأوّل أولى. {والقمر إِذَا اتسق} أي: اجتمع، وتكامل. قال الفراء: اتساقه امتلاؤه، واجتماعه، واستواؤه ليلة ثالث عشر، ورابع عشر إلى ستّ عشرة، وقد افتعل من الوسق الذي هو الجمع. قال الحسن: اتسق امتلأ، واجتمع.
وقال قتادة: استدار، يقال: وسقته فاتسق، كما يقال: وصلته فاتصل، ويقال أمر فلان متسق أي: مجتمع منتظم، ويقال اتسق الشيء: إذا تتابع.
{لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} هذا جواب القسم. قرأ حمزة، والكسائي، وابن كثير، وأبو عمرو: {لتركبنّ} بفتح الموحدة على أنه خطاب للواحد، وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له، وهي قراءة ابن مسعود، وابن عباس، وأبي العالية، ومسروق، وأبي وائل، ومجاهد، والنخعي، والشعبي، وسعيد بن جبير، وقرأ الباقون بضم الموحدة خطاباً للجمع، وهم الناس.
وقال الشعبي، ومجاهد: لتركبنّ يا محمد سماء بعد سماء. قال الكلبي: يعني: تصعد فيها، وهذا على القراءة الأولى، وقيل: درجة بعد درجة، ورتبة بعد رتبة في القرب من الله ورفعة المنزلة، وقيل المعنى: لتركبنّ حالاً بعد حال كل حالة منها مطابقة لأختها في الشدّة، وقيل المعنى: لتركبنّ أيها الإنسان حالاً بعد حال من كونك نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم حياً، وميتاً، وغنياً، وفقيراً، فالخطاب للإنسان المذكور في قوله: {يأَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبّكَ كَدْحاً} واختار أبو عبيد، وأبو حاتم القراءة الثانية قالا: لأن المعنى بالناس أشبه منه بالنبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقرأ عمر: {ليركبنّ} بالتحتية، وضم الموحدة على الإخبار، وروي عنه وعن ابن عباس أنهما قرآ بالغيبة، وفتح الموحدة أي: ليركبنّ الإنسان، وروي عن ابن مسعود، وابن عباس أنهما قرآ بكسر حرف المضارعة وهي لغة، وقرئ بفتح حرف المضارعة، وكسر الموحدة على أنه خطاب للنفس. وقيل: إن معنى الآية: ليركبنّ القمر أحوالاً من سرار، واستهلال، وهو بعيد. قال مقاتل {طَبَقاً عَن طَبقٍ} يعني: الموت والحياة.
وقال عكرمة: رضيع، ثم فطيم، ثم غلام، ثم شابّ، ثم شيخ. ومحل {عن طبق} النصب على أنه صفة ل {طبقاً} أي: طبقاً مجاوزاً لطبق، أو على الحال من ضمير لتركبنّ أي: مجاوزين، أو مجاوزاً.
{فما لهم لاَ يُؤْمِنُونَ} الاستفهام للانكار، والفاء لترتيب ما بعدها من الإنكار، والتعجيب على ما قبلها من أحوال يوم القيامة، أو من غيرها على الاختلاف السابق، والمعنى: أيّ شيء للكفار لا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من القرآن مع وجود موجبات الإيمان بذلك.
{وَإِذَا قُرِئ عَلَيْهِمُ القرءان لاَ يَسْجُدُونَ} هذه الجملة الشرطية، وجوابها في محل نصب على الحال أي: أيّ مانع لهم حال عدم سجودهم، وخضوعهم عند قراءة القرآن. قال الحسن، وعطاء، والكلبي، ومقاتل: مالهم لا يصلون.
وقال أبو مسلم: المراد الخضوع، والاستكانة. وقيل: المراد نفس السجود المعروف بسجود التلاوة.
وقد وقع الخلاف هل هذا الموضع من مواضع السجود عند التلاوة أم لا؟ وقد تقدم في فاتحة هذه السورة الدليل على السجود {بَلِ الذين كَفَرُواْ يُكَذّبُونَ} أي: يكذبون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من الكتاب المشتمل على إثبات التوحيد، والبعث، والثواب، والعقاب: {والله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} أي: بما يضمرونه في أنفسهم من التكذيب، وقال مقاتل: يكتمون من أفعالهم.
وقال ابن زيد: يجمعون من الأعمال الصالحة والسيئة، مأخوذ من الوعاء الذي يجمع ما فيه، ومنه قول الشاعر:
الخير أبقى وإن طال الزمان به ** والشرّ أخبث ما أوعيت من زاد

ويقال: وعاه حفظه، ووعيت الحديث أعيه وعياً، ومنه: {أُذُنٌ واعية} [الحاقة: 12] {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي: اجعل ذلك بمنزلة البشارة لهم؛ لأن علمه سبحانه بذلك على الوجه المذكور موجب لتعذيبهم، والأليم المؤلم الموجع، والكلام خارج مخرج التهكم بهم {إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} هذا الاستثناء منقطع أي: لكن الذين جمعوا بين الإيمان بالله، والعمل الصالح لهم أجر عند الله غير ممنون أي: غير مقطوع، يقال مننت الحبل: إذا قطعته، ومنه قول الشاعر:
فترى خلفهنّ من سرعة الرج ** ع منيناً كأنه أهباء

قال المبرد: المنين الغبار؛ لأنه تقطعه وراءها، وكل ضعيف منين وممنون. وقيل: معنى {غير ممنون} أنه لا يمنّ عليهم به، ويجوز أن يكون الاستثناء متصلاً إن أريد من آمن منهم.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب في قوله: {إِذَا السماء انشقت} قال: تنشقّ السماء من المجرّة.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس: {وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا وَحُقَّتْ} قال: سمعت حين كلمها.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه {وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا وَحُقَّتْ} قال: أطاعت، وحقت بالطاعة.
وأخرج الحاكم عنه وصححه قال: سمعت وأطاعت {وَإِذَا الأرض مُدَّتْ} قال: يوم القيامة {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا} قال: أخرجت ما فيها من الموتى {وَتَخَلَّتْ} عنهم.
وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا} قال: سواري الذهب.
وأخرج الحاكم: قال السيوطي بسند جيد عن جابر قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «تمدّ الأرض يوم القيامة مدّ الأديم، ثم لا يكون لابن آدم فيها إلا موضع قدميه».
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس: {إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبّكَ كَدْحاً} قال: عامل عملاً {فملاقيه} قال: فملاق عملك.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس أحد يحاسب إلا هلك»، فقلت أليس يقول الله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً}؟ قال: «ليس ذلك بالحساب، ولكن ذلك العرض، ومن نوقش الحساب هلك».
وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، وابن جرير، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته: «اللهم حاسبني حساباً يسيراً»، فلما انصرف قلت: يا رسول الله ما الحساب اليسير؟ قال: «أن ينظر في كتابه، فيتجاوز له عنه، إنه من نوقش الحساب هلك» وفي بعض ألفاظ الحديث الأوّل، وهذا الحديث الآخر: «من نوقش الحساب عذّب».
وأخرج البزار، والطبراني في الأوسط، والبيهقي، والحاكم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كنّ فيه يحاسبه الله حساباً يسيراً، ويدخله الجنة برحمته: تعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك».
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {يَدْعُواْ ثُبُوراً} قال: الويل.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} قال: يبعث.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً {أَن لَّن يَحُورَ} قال: أن لن يرجع.
وأخرج سمويه في فوائده عن عمر بن الخطاب قال: {الشفق} الحمرة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس مثله.
وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: {الشفق} النهار كله.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {واليل وَمَا وَسَقَ} قال: وما دخل فيه.
وأخرج أبو عبيد في فضائله، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر عنه {وَمَا وَسَقَ} قال: وما جمع.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {والقمر إِذَا اتسق} قال: إذا استوى.
وأخرج عبد بن حميد، وابن الأنباري من طرق عن ابن عباس أنه سئل عن قوله: {واليل وَمَا وَسَقَ} قال: وما جمع، أما سمعت قوله:
إن لنا قلائصاً نقانقا ** مستوسقات لو يجدن سائقا

وأخرج عبد بن حميد عنه {والقمر إِذَا اتسق} قال: ليلة ثلاثة عشر.
وأخرج عبد بن حميد عن عمر بن الخطاب {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} قال: حالاً بعد حال.
وأخرج البخاري عن ابن عباس {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} حالاً بعد حال، قال: هذا نبيكم صلى الله عليه وسلم.
وأخرج أبو عبيد في القراءات، وسعيد ابن منصور، وابن منيع، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عباس أنه كان يقرأ: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} يعني: بفتح الباء من {تركبنّ}. وقال: يعني: نبيكم صلى الله عليه وسلم حالاً بعد حال.
وأخرج الطيالسي، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والطبراني عنه قال: {لَتَرْكَبُنَّ} يا محمد السماء {طَبَقاً عَن طَبقٍ}.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، والحاكم في الكنى، والطبراني، وابن منده، وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قرأ: {لتركبنّ} يعني: بفتح الباء.
وقال لتركبنّ يا محمد سماء بعد سماء.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عنه: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} قال: يعني: السماء تنفطر، ثم تنشق، ثم تحمّر.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي عنه أيضاً في الآية قال: السماء تكون كالمهل، وتكون وردة كالدّهان، وتكون واهية، وتشقق، فتكون حالاً بعد حال.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {والله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} قال: يسرّون.